كنت أصرخ ولا أحد يسمعني… كنت أرجو أن أموت على أن أبقى مكبّلة تحت أيديهم. ما فعلوه بي لا يفعله بشر، وما خفي أشد قسوة.”

بهذه الكلمات بدأت الأسيرة المحررة (أ.ن) البالغة من العمر 42 عاماً من سكان شمال غزة، شهادتها الصادمة عن التعذيب والاغتصاب الذي تعرضت له داخل سجون الاحتلال، منذ لحظة نزوحها القسري من بيت لاهيا في 29 تشرين الأول/أكتوبر 2024 وحتى الإفراج عنها بعد أكثر من شهر من الاعتقال.

وتصف (أ.ن) ما مرت به بأنه “إبادة أخرى خلف الجدران”، مؤكدة أنها لم تكن تعرف نهاراً من ليل داخل الزنازين، وأنها فقدت الشعور بالزمن سوى برقم واحد: 101، الرقم الذي منحها إياه الجنود بديلاً عن اسمها وهويتها.

التعذيب منذ اللحظة الأولى

تقول الأسيرة إنها خضعت منذ وصولها إلى الحاجز العسكري الذي أقامه جيش الاحتلال داخل قطاع غزة لعمليات إذلال ممنهج: تكبيل، تعصيب للعينين، خلع للحجاب بالقوة، وترك في العراء على أرض مليئة بالحصى في برد شديد، وهي المرأة الوحيدة بين 150 معتقلاً من الرجال.

وفي اليوم التالي، نُقلت مع بقية المعتقلين عبر ناقلتين وصفتهما بأنهما “غير صالحتين للاستخدام الآدمي”.

وتضيف: “الضرب كان ينهال علينا طوال الطريق، إلى جانب سيل من الشتائم، منها ما طال الذات الإلهية والدين الإسلامي. وصلنا إلى نقطة عسكرية في منطقة (سديروت)، حيث مكثنا ليلة واحدة، كانت مجرد محطة انتقال نحو ما هو أسوأ”.

بعد نقلها إلى سجن “سديه تيمان”، أُجبرت على خلع ملابسها بالكامل تحت تهديد السلاح، وحين رفعت يديها لخلع قميصها، بحسب شهادتها، سُحبت العصبة عن عينيها للحظات رأت فيها جنديَين يوجهان هاتفيهما نحوها ويصورانها. صرخا عليها لاستعادة العصبة، وتركاها بملابسها الداخلية قبل إلباسها رداء السجن رمادي اللون، في حين قامت مجندة بقص شعرها.

ثم أعادوا تكبيل يديها بشدة لدرجة سببت لها جروحًا دامية. وُضعت داخل قفص ضيق لا يسمح بالجلوس، وبقيت واقفة رغم حاجتها الملحّة لقضاء حاجتها، لكن الجنود رفضوا السماح لها، فاضطرت لقضاء حاجتها واقفة أمام الجميع وسط الإهانات والسخرية.

لاحقا، جرى إخراجها مع بقية الأسرى إلى الساحة، حيث أُجبروا على الركوع ساعات طويلة ورؤوسهم إلى الأرض، بينما أطلق الجنود كلابا مدربة هاجمتهم، لدرجة أنها تبولت على نفسها مرة أخرى من شدة الرعب، وسط صراخ الجنود وضحكاتهم.

بعد ساعات، نُقل المعتقلون إلى ما سُمّي بالكشف الطبي، حيث سألها “طبيب” إن كانت تعاني من أمراض. أجابت بالنفي. وحين سألها إن كانت تعرضت للضرب، وأجابت نعم، انهال عليها “الطبيب” نفسه بالشتائم والإهانات، في مشهد ينفي أي وجود لوظيفة الطب أو الإنسانية، على حد وصفها.

بعد عودتها إلى الساحة، وهي ما تزال راكعة ومكبّلة، اقتادها جنديان إلى ضابط مخابرات جلس خلف طاولة يسأل عن الأنفاق والمطلوبين من عائلتها. تقول إنها كانت ترد بأنها لا تعرف شيئا، فينهال عليها الجنديان بالضرب، مركزين على منطقة أسفل الرأس. عرض الضابط عليها التعاون مقابل إطلاق سراحها، ملوحا بوعود كاذبة بالحماية، ثم هدّدها باغتصابها واستهداف عائلتها إن لم تتعاون. رغم الألم والخوف، تقول إنها رفضت كل عروضهم.

غرفة الاغتصاب”… الجريمة الأبشع

تتحدث (أ.ن) عن اليوم الثالث باعتباره البداية الفعلية لأبشع الجرائم، حين أخذها أربعة جنود مقنعين إلى غرفة مساحتها أربعة أمتار مربعة، تتوسطها طاولة معدنية مثبتة بالأرض، وكأنها مخصّصة لتعذيب النساء والاغتصاب. طُلب منها خلع ملابسها كاملة، ثم كبّلوها بالطاولة، وتناوب اثنان من الجنود على اغتصابها بعنف شديد، بينما جنديان آخران يصوران المشهد بهواتفهما.

وتتابع شهادتها، أن الغرفة كانت مجهّزة بكاميرات مراقبة، وأنها بقيت بعد ذلك مقيدة عارية ليوم كامل بلا طعام أو ماء. في اليوم الذي يليه، عاد الجنود أنفسهم مقنعين أيضا. تقول: “أعادوا اغتصابي، ورفع أحدهم قناعه وقال إنه يدعى ليو، من أصول روسية، وطلب مني التعاطي معه جنسيا، وعندما رفضت، ضربني مع زملائه بشراسة”.

ونتيجة تعرضها للاغتصاب المتكرر، أصيبت بنزيف وجروح، وفي تلك الليلة جاءتها الدورة الشهرية وهي ما تزال مقيدة للطاولة، فتركوها تنزف طوال الليل دون أي محاولة لفك قيدها.

وتردف قائلة: “فقدت القدرة على معرفة الوقت. الليل يشبه النهار داخل السجن. ما كنت أعرفه فقط أنني أحمل رقم 101”.

وبعد مضي يوم أو يومين، اقتادها الجنود إلى غرفة أخرى يتدلى من سقفها سلاسل وقيود، وفيها صليب معدني يستخدم لربط المعتقلين. طُلب منها خلع ملابسها بالكامل مجددًا، ثم قُيدت من قدميها وعُلّقت من يديها. انهالوا عليها بالضرب مركّزين على صدرها حتى شعرت أنها تختنق. بعدها عرضوا عليها صورها عارية وصور اغتصابها، وهددوها بنشرها إن لم تتعاون. وعندما رفضت مجددا، أوصلوا جسدها بأسلاك كهربائية وصعقوها مرارًا حتى فقدت الوعي. أيقظوها برش الماء البارد على جسدها، ثم أنزلوها وأعادوها إلى الزنزانة.

وتصف (أ.ن) زنزانتها بأنها كانت أشبه بثلاجة: المكيف يعمل على أقصى درجات البرودة، لا فراش ولا غطاء. كانت تتلقى كاسة لبن وتفاحة فقط يوميًا، ويتعاملون معها بازدراء بسبب النزيف الناتج عن الدورة الشهرية والجروح التي سببها الاغتصاب.

من جهته، يؤكد نائب مدير البحث الميداني في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ياسر عبد الغفور لـ”وفا”، أن المركز يعتمد “بروتوكول إسطنبول” لتوثيق التعذيب والانتهاكات، ويشمل المقابلات الفردية، الفحص الطبي الشرعي، مراجعة الأدلة، وتوثيق ظروف الاحتجاز، مشيرا إلى تلقي شهادات من معتقلين محررين بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، تضمنت اغتصابا وتعرية قسرية وإيذاء جنسي.

ويضيف، أن دولة الاحتلال تتحمل المسؤولية المباشرة، ويواجه قادتها السياسيون والعسكريون المسؤولية الجنائية الفردية وفق نظام روما الأساسي.

ويشدد على أن هذه الانتهاكات تُصنّف جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية إذا مورست بشكل واسع ومنهجي، وأن دولة الاحتلال قد تبنت سياسة منهجية للتعذيب الجنسي، بما في ذلك الاغتصاب والتعرية والتصوير القسري، كجزء من جريمة الإبادة الجماعية بحق المواطنين في قطاع غزة.

ويؤكد أن المركز يقدم ملفات شاملة للمحكمة الجنائية الدولية، ويعمل على حماية الضحايا والشهود، وضمان رعاية طبية ونفسية وقانونية شاملة بعد الإفراج، مع الحفاظ علي سرية هوية الضحايا وسلامتهم.

98 شهيداً من الأسرى… والعدد الحقيقي أكبر

وفي تقرير نشرته على موقعها الإلكتروني، تكشف جمعية “أطباء لحقوق الإنسان” الحقوقية الإسرائيلية، إن 94 أسيرا فلسطينيا، استشهدوا في سجون الاحتلال الإسرائيلي خلال العامين الماضيين، جراء سياسة التعذيب والحرمان من الرعاية الطبية، مضيفة أن هذا العدد غير مسبوق ويُعتقد أنه أقل من العدد الحقيقي بكثير، بسبب سياسة الإخفاء القسري منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

ويبين التقرير، أن النتائج الأولية لتقارير تشريح الجثث التي أصدرتها عائلات المعتقلين، إلى جانب شهادات جمعها محامون زاروا السجون، تشير إلى نمط متواصل من العنف الشديد، بما في ذلك إصابات في الرأس، ونزيف داخلي، وكسور في الأضلاع. وفي حالات أخرى، وُثِّقت حالات إهمال طبي خطير، بما في ذلك حالات سوء تغذية حاد، وحرمان من العلاج المنقذ للحياة.

في حين، يؤكد رئيس نادي الأسير الفلسطيني، عبد الله الزغاري، أن اعتراف سلطات الاحتلال لـ”منظمة أطباء لحقوق الإنسان” باستشهاد 94 أسيرا ومعتقلا فلسطينيا في سجون ومعسكرات الاحتلال منذ بدء حرب الإبادة حتى شهر آب/أغسطس 2025، ثم تسجيل أربعة آخرين بعد ذلك والإعلان عنهم ليرتفع العدد إلى 98 شهيدا، يشير بوضوح إلى أن العدد الحقيقي أعلى مما جرى الإعلان عنه ويتجاوز المئة، وهو عدد غير نهائي.

ويشدد على أن هذه المعطيات تمثل مؤشرا جديدا وتأكيدا إضافيا على فداحة الجريمة المستمرة بحقّ الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي، الذين يتعرضون لشكل آخر من الإبادة، استنادا إلى الفظائع والانتهاكات الجسيمة التي وثّقتها عشرات المؤسسات الفلسطينية ومؤسسات حقوقية داخل أراضي الـ48

المصدر : وفا – محمد دهمان