التعطيش.. سياسة إسرائيلية ممنهجة لخنق الفلسطينيين في الضفة الغربية

على أسطح منازل بلدة بيتونيا جنوب غرب رام الله، تصطف خزانات المياه السوداء يراقبها الأهالي ترقّبًا لقطرات قد لا تأتي. تفتح المواطنة نداء سالم صنبور المياه يوميًا، فلا تجد سوى الهواء. تقول: “ننتظر الماء كأننا ننتظر المعجزة. المياه تصلنا مرة كل عشرة أيام، وأحيانًا لا تأتي أصلًا، وهذا لا يحدث بالصدفة، بل هو سياسة إسرائيلية لقتل روح الحياة فينا.”
هذا المشهد ليس حكرًا على بيتونيا، بل يتكرر في بلدات ومدن ومخيمات الضفة الغربية كافة، حيث بات شُحّ المياه وانقطاعها المتواصل جزءًا من معاناة يومية، تتعدى كونها أزمة مناخية أو سوء إدارة، لتتجذر في سياسات الاحتلال الإسرائيلي التي تتحكم بالموارد المائية، وتحولها إلى أداة عقاب جماعي واستراتيجية استعمارية طويلة الأمد.
احتكار ممنهج للمياه
منذ احتلال الضفة الغربية عام 1967، فرضت إسرائيل سيطرة شبه كاملة على الموارد المائية، لا سيما في حوض الجبل، الذي يعد المصدر الرئيس للمياه الجوفية في فلسطين. ووفق تقرير سلطة المياه الفلسطينية لعام 2023، تستولي إسرائيل على أكثر من 85% من مياه هذا الحوض، تاركة للفلسطينيين أقل من 15%.
في محافظة الخليل، تتجلى هذه السيطرة بوضوح، إذ تعاني المدينة ومحيطها من تقليص ممنهج في كميات المياه الموردة. يقول مدير دائرة المياه والصرف الصحي في الخليل، مصعب اعبيدو: “شركة ‘ميكوروت’ الإسرائيلية تقلّص باستمرار الكميات المخصصة للخليل. أحيانًا نحصل على أقل من 40% من الكمية المطلوبة، ما يجعلنا غير قادرين على تطبيق جدول توزيع منتظم.”
وتابع اعبيدو: “أصبح المواطن يحصل على المياه مرة كل 80 يومًا، فيما لا تتجاوز حصة الفرد اليومية 35-40 لترا، وهو ما يقل كثيرًا عن الحد الأدنى الذي توصي به منظمة الصحة العالمية، والمقدر بـ100 لتر للفرد يوميًا.”
بيت لحم أيضًا عطشى
في محافظة بيت لحم، لا يختلف الواقع كثيرًا، حيث تشهد معظم الأحياء والبلدات انقطاعات طويلة. يقول المواطن عبد الرحمن حسان من شارع الصف: “لم تصل المياه إلى منازلنا منذ 20 يومًا. نضطر لشراء صهاريج مياه بـ150 شيقلا لثلاثة أمتار مكعبة. كثيرون لا يستطيعون تحمّل هذا العبء في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.”
وفي بلدة الخضر المجاورة، يقول المواطن علاء عيسى: “المياه تصلنا مرة كل أسبوعين، وحتى عندما تصل، فالضغط ضعيف ولا يكفي لتعبئة الخزانات. نحن نعيش في عطش مستمر.” ويؤكد: “هذه ليست أزمة طبيعية، بل سياسة تجويع وتعطيش.”
سياسة ممنهجة وأدوات جديدة
مدير عام التخطيط والناطق باسم سلطة المياه، عادل ياسين، يؤكد أن سياسة التعطيش قديمة، لكنها اتخذت أبعادًا أكثر قسوة في السنوات الأخيرة. يقول: “الاحتلال يتبع أدوات جديدة لتعميق الأزمة، منها غض الطرف عن سرقة المياه من الخطوط المغذية لمناطق الضفة، خصوصًا في مناطق (ج) الخاضعة لسيطرة الاحتلال الكاملة.”
وأوضح ياسين أن سلطة المياه الفلسطينية وفّرت بنية تحتية وشبكات تغذية لمعظم التجمعات السكانية، لكن الكميات التي تصل فعليًا يتحكم بها الاحتلال. “هناك سبع تجمعات فلسطينية لا تصلها المياه بتاتًا، مثل دير أبو ضعيف وعربونة وجلبون شرق جنين، بسبب رفض الاحتلال منح التراخيص اللازمة أو منع طواقم الصيانة من العمل.”
أداة استعمار وسيطرة
الباحث في شؤون الاستيطان، سهيل خليلية، يضع سياسة التعطيش ضمن منظومة استعمارية متكاملة. يقول: “تتحكم إسرائيل في المياه كأداة للهيمنة والسيطرة على الفلسطينيين. الماء أحد شروط الحياة الكريمة، وحرمان الناس منه انتهاك صريح للقانون الدولي الإنساني، خاصة المادة 55 من اتفاقية جنيف الرابعة.”
ويضيف: “السلطات الإسرائيلية تحظر على الفلسطينيين حفر آبار جديدة، أو ترميم القديمة، أو حتى إنشاء خزانات مياه أو أنظمة لجمع مياه الأمطار، في وقت يتم فيه تشجيع المستعمرين على إقامة مشاريع زراعية ضخمة تستنزف المياه الفلسطينية.”
وبيّن خليلية أن 76% من اعتماد الفلسطينيين هو على المياه الجوفية، ولا تتوفر مصادر بديلة بسبب القيود الإسرائيلية، رغم تساقط أكثر من 165 مليون متر مكعب من الأمطار سنويًا لا يُستفاد منها نتيجة المنع الإسرائيلي لإنشاء برك وخزانات تجميع.
المياه كجبهة صراع مباشر
ومع تصاعد العدوان على قطاع غزة منذ تشرين الأول 2023، تضاعفت اعتداءات المستعمرين على مصادر المياه في الضفة الغربية، خاصة في مناطق “ج”. يقول خليلية: “وفق تقارير حقوقية، تم تسجيل أكثر من 460 اعتداء، من بينها 63 اعتداءً مباشرًا على ينابيع فلسطينية.”
وأبرز هذه الاعتداءات وقع في قرية عين سامية شرق رام الله، حيث دمّر المستعمرون شبكة المياه الرئيسية، ما حرم أكثر من 110 آلاف شخص من المياه. كما سيطر المستعمرون على 56 ينبوعًا في الأغوار الشمالية والمنطقة الغربية المعزولة خلف الجدار، وحوّلوها إلى متنزهات سياحية حصرية لهم.
وأضاف: “هذه الهجمات ترافقت مع تخريب شبكات ري وتدمير خطوط ضخ وسرقة مضخات وآليات زراعية، ضمن سياسة تهدف إلى طرد المزارعين وتجفيف الزراعة الفلسطينية.”
بين القانون الدولي والواقع اليومي
يشكل الحرمان من المياه في الضفة الغربية انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، الذي يضمن الحق في الماء كجزء لا يتجزأ من الحق في الحياة. إلا أن الواقع اليومي للفلسطينيين، من بيتونيا إلى الخليل وبيت لحم والأغوار، يعكس حجم المفارقة بين النصوص القانونية والممارسات الاحتلالية على الأرض.
ففي الوقت الذي تعيش فيه المستعمرات حالة من الوفرة، وتخضر فيها مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، يكافح الفلسطينيون يوميًا من أجل قطرة ماء، ويدفعون من دخلهم المحدود لتوفير حاجات أساسية، حُرموا منها بفعل سياسات ممنهجة تسعى إلى إخضاعهم، وتجريدهم من أدوات الصمود والبقاء.
المصدر : وفا- وعد الكار