يوم عرفة هو التاسع من شهر ذي الحجة، ويُعَد أحد أعظم أيام العام الإسلامي وأهم أيام الحج؛ إذ يعدّ الوقوف بعرفة أعظم أركان الحج. في هذا اليوم يقف الحجاج بمشعر عرفة ـ خصوصًا في صعيد عرفة وجبل الرحمة (جبل عرفات) ـ في أوقات محدّدة امتدت بين زوال شمس يوم العرفة وحتى طلوع فجر يوم النحر. وقد ورد في القرآن الكريم ذكرٌ عابر لأهمية هذا الوقوف، مثل قوله تعالى في سياق مناسك الحج: «فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ» (سورة البقرة: 198).

الجانب الديني والشرعي

يحفل يوم عرفة بالكثير من الدلائل الشرعية من القرآن والسنة. فقد ورد في الأحاديث النبوية الصحيحة ما يبيّن فضله العظيم: فعن عائشة رضي الله عنها قالت إن النبي ﷺ قال: **«ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة»**. كما روى جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ قال: **«ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة»**. وفي حديث آخر عن أنس بن مالك أن جبريل عليه السلام أبلغ الرسول ﷺ بأن الله تعالى قال: «إن الله ليغفر لأهل عرفات وأهل المشعر» (أي أهل مزدلفة).

وبالإضافة إلى ذلك، ورد نص نبوي صريح في مكانته الكبرى كركن من أركان الحج: قال ﷺ: **«الحج عرفة»**، وعنه أيضاً: «من أدرك عرفة فقد أدرك الحج» (أي إن الوقوف بها هو ما يتمم الحج). وهذا يوضّح أن الوقوف بعرفة لا يصح الحج بدونه، فإذا لم يَحُضّ الحاج يوم عرفة فقد فسد حجه. وقد أكد الفقهاء أن زمن الوقوف يبدأ بزوال شمس يوم العرفة وينتهي بفجر يوم العيد، وأنه إذا وقف الحاج ولو قضاءً من الوقت من غير إفطار، يُجزئه حجّه شريطة ألا يكون ذلك أثناء الليل فإنه ينقصه شيئًا.

من المستحب لغير الحاج اغتنام هذا اليوم بالصيام والعبادة والدعاء، وقد ورد في السنة النبوية مدح صيام يوم عرفة لغير الحاج: قال النبي ﷺ **«صيام يوم عرفة أحتسبه على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده»**، أي يكفر ذنوب سنتين. ولذا يُصوِّم كثير من المسلمين هذا اليوم طمعًا في رحمة الله ومغفرته. أمّا الحاج فينبغي أن يُفطر في يوم عرفة ويمكث في صعيد عرفات، إذ ثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه حج مع النبي ﷺ ومع الخلفاء الراشدين فلم يصم يوم عرفة، وقال: “لا أصومه، ولا آمُرُ به ولا أنهى عنه”، وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى استحباب إفطار الحاج يوم عرفة.

وعامةً، يجمع الفقهاء على أن يوم عرفة من أيام الخير والبركة. ففيه قال النبي ﷺ: **«خير الدعاء دعاء يوم عرفة»**، فتنشط فيه العبادات ويفتتح الحاج يومه بكثرة الدعاء والتلبية. وقد روى أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي ﷺ عدّ يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق «عيدًا لنا أهل الإسلام» كونها أيامَ أكل وشرب وفرح بعد إتمام مناسك الحج.

الجانب التاريخي

تعود أصول الوقوف بعرفة إلى عصر الرسالة، حيث جعل النبي ﷺ يوم عرفة جزءًا أساسيًّا في مناسك حجّة الوداع سنة 10هـ. فقد حج النبي ﷺ حجةً وداعًا في تلك السنة وألقى على جبل عرفات خطبته الشهيرة، مجسّدًا هدي إبراهيم الخليل عليه السلام في إتمام الحج واجتماع المسلمين، وهو الحدث الذي جاء ذكره في قوله تعالى: **«اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا»**. وبعد وفاة النبي ﷺ، واصل المسلمون الوقوف بعرفة في كل حجّ. ففي السنة التاسعة للهجرة أرسل النبي ﷺ أولى بعثات الحج تحت قيادة أبي بكر الصديق، وكان الوقوف بعرفة من أهم ملامحه.

مع توسّع الدولة الإسلامية، أصبح الحج وقوف عرفة مظهراً لتثبيت سلطان الدولة وعنوانًا لوحدة الأمة. ففي عهد معاوية بن أبي سفيان (تأسيس الدولة الأموية سنة 41هـ) برز اهتمام الأمويين بضبط طرق الحج وتأمينها، وسَعَت الدولة الأمويّة إلى تأمين مواكب الحجاج وقوافلهم وضمان رعاية شعائر الحج. وفي الدولة العباسية تمّ تطوير بنية الطرق التي تعتمر مكة من العراق (درْب زبيدة)، فعُمد إلى حفر الآبار وبناء محطات الاستراحة وإقامة العلامات الإرشادية على طولها، حيث بلغ هذا الطريق أوجه خلال القرنين الثاني والثالث للهجرة. ويُروى أن زبيدة بنت جعفر، زوجة الخليفة هارون الرشيد، شيّدت بسخائها الآلاف من الآبار والبرك والسبل على طريق الكوفة–مكة، حتى صار يُعرف بالطريق (درب) زبيدة.

وفي العهد العثماني استمرت الدولة الإسلامية في الإشراف على الحج. فقد نقل العثمانيون إدارة شؤون المشاعر منذ القرن العاشر الهجري (في عهد السلطان سليمان القانوني)، وشهدت قوافل الحج انتظامًا واضحًا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، حيث بلغت أعداد الحجاج أحيانًا نحو مئة ألف حاج. وكان من أبرز مشاريع العثمانيين إنشاء سكة حديد الحجاز سنة 1326هـ/1908م، فخفّضت زمن الرحلة وأسهمت في تيسير نقل الحجاج.

مع قيام الدولة السعودية الحديثة تحوّلت مراسيم الحج ووقوف عرفة إلى منظومة فلكلورية ومنظمة بأقصى مظاهرها، فقد وسعت الدولة مرافق الحج والخدمات اللوجيستية بكثافة. فتم توسيع مسجد نمرة بعرفات إلى ما يزيد على ١١٠ آلاف متر مربع في عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله، وقامت الهيئة العامة لشؤون الحرمين بتأهيل المنصات والخدمات الإلكترونية لبث خطبة يوم عرفة إلى المسلمين في كل مكان. العصر / الدولةالمستجدات وشؤون الحج وعرفة عهد النبي ﷺ وخلفائه الراشدين (7–35هـ)الحج في حجة الوداع (10هـ) وضع الأساس للوقوف بعرفة وإقامة خطبته؛ إرسال أولى بعثات الحج بقيادة أبي بكر (9ه استقرار مناسك الوقوف في عرفة في كل حجّ. عصر الأمويين (41–132هـ)اهتمام الدولة الإسلامية بضمان أداء الحج وتجهيز طرقه؛ تأمين قوافل الحجاج وتوفير الغذاء والأمن لهم؛ ظهور هياكل تنظيمية للحج تجسّد هيبة الدولة. عهد العباسيين (132–656هـ)مشروع بناء درب الحج العراقي (درب زبيدة) بشق آلاف الآبار والأسبلة؛ تحقيق نقلة عمرانية في طرق الحج؛ توسعة نطاق الحاجّ العراقي وترتيب الإقامة والتزوّد على الطريق. العصر العثماني (922–1343هـ)تنظيم رسمي موحد لمواكب الحج (تكليف أمير للحج لكل منطقة)؛ استقرار سنوي للقوافل بعد اتساع الدولة؛ إنشاء سكة حديد الحجاز (1326هـ/1908م) لتسهيل النقل؛ مواجهة تحديات صحية وعسكرية (وباء الحج وحروب الإقليم). العصر السعودي الحديث (1343هـ–الآن)البنية التحتية لحج تشرف عليها الدولة مركزياً: توسعة مسجد نمرة وعرفة، إنشاء مخيمات ضخمة، نظام النقاط المكانية (مواقيت، قطار الحرمين، مطارات)؛ التوسع الإعلامي في نقل خطبة عرفة لملايين المسلمين بالعالم استخدام التقنية (الترجمة الفورية، المنصات الإلكترونية).

الجانب الاجتماعي

يمتد أثر يوم عرفة إلى حياة المسلمين العاديين وغير الحجاج في مختلف البلاد. يستقبل الكثير من المسلمين هذا اليوم بعُدة خاصة، فتكثر فيه صلوات الجماعة في المساجد والدعاء وقراءة القرآن. ويُسارع الكثيرون إلى الصيام اقتداءً بسُنّة النبي ﷺ لغير الحاج، واحتساباً للمغفرة الواردة فيه؛. وينشغل آخرون في الاستغفار والإكثار من الذكر والدعاء، مؤمنين بأن هذا اليوم مبارك تُستجاب فيه الدعوات، كما ورد عن النبي ﷺ: **«خيرُ الدُّعاءِ دُعاءُ يومِ عَرَفةَ»**.

وفي عالمنا الإسلامي يُعامل يوم عرفة تقليدياً على أنه عيد داخلي؛ فقد روى أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: **«يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب»**. وبناءً على ذلك، تستمر كثير من العائلات في بعض البلاد في التجهيز للعيد وتهيئة الولائم بعد صلاة الظهر من يوم عرفة، ويرفع الناس التكبير تبتهاً بكرمه، وإن كان يوم العيد الرسمي هو العاشر (عيد الأضحى). غير أن مراسيم وطقوس الاحتفال تختلف من بلد إلى آخر؛ فبعض الشعوب تُقيم مجالس ذكر ودروساً دينية خاصة في يوم عرفة، أو توجه حملات لجمعية للأضاحي، أو توزع كفالات وأضاحي للأيتام والمحتاجين تعبيراً عن قيم التضامن الاجتماعي.

الجانب السياسي والإعلامي

في العصر الحديث تحول يوم عرفة أيضاً إلى مناسبة إعلامية وسياسية تبرز فيها خطب الحج وعرفات التي يلقيها كبار العلماء والمسؤولون أمام الحشود. ففي المسجد النمْرة بمكة المكرمة تُلقى خطبة عرفة رسمية يكلف بها إمام من علماء السعودية من قبل ملك المملكة. وتتزامن هذه الخطبة مع بثٍ مباشر عالمي وتنقلها القنوات الرسمية وصحف الدول الإسلامية، حيث تناقش عادة قضايا المسلمين العامة؛ يدعو الخطيب فيها الحجيج إلى التراحم والتعاون والوحدة وإلى الالتزام بتعاليم الإسلام في الحياة اليومية.

وقد أخذت المملكة العربية السعودية خطوات ضخمة للارتقاء بالبُعد الإعلامي للخُطبة. ففي عام 1439هـ أنشأت رئاسة الحرمين «مشروع خادم الحرمين الشريفين لترجمة خطبة عرفة وخطب الحرمين»، الذي يوفر ترجمة فورية للخطبة إلى عدة لغات ويبثها عبر التطبيق الإلكتروني والموقع الرسمي ومنصات الحرمين. فعلى سبيل المثال، بلغ عدد زوار منصة (منارة الحرمين) الخاصة بالخطبة نحو ٦٠٠ مليون زائر في حج ١٤٤٣هـ، واستمع إلى الخطبة نحو ٢١٩ مليون شخص من أنحاء العالم. وبذلك أصبحت خطبة عرفة من أكثر الخطب الدينية مشاهدة وترجمة في العالم الإسلامي، حاملة رسائل سياسية ودعوية تتناول معالم الوحدة الإسلامية وترسيخ قيم التسامح والسلام، وفق الضوابط التي تحرص على عدم تسييس شعيرة الحج.

تفاصيل الوقوف بعرفة

على صعيد عرفات ومشعر عرفة (مُنَى)، ينزل ملايين الحجيج في صباح يوم التاسع ليفرغوا للعبادة والدعاء. يتبارى الحجاج في التوجه إلى جبل الرحمة (جبل عَرَفَة) لاعتباره أكثر الأماكن استحبابًا للوقوف، فهو النقطة التي ألقى أسفلها النبي ﷺ خطبته الخالدة. ويحيط بالجبل الصعيد الواسع حيث تُقام الصلاة وتقام الخيام الجماعية. ويعتبر مسجدا نمرة (المُشير إليه في حديث النبي ﷺ) أبرز معالم المنطقتين؛ فهو ثاني أكبر مسجد مساحةً بعد الحرم المكي، وقد وسّعه الملك عبدالعزيز إلى أكثر من ١١٠ آلاف متر مربع، وشُيّد فيه مصلى كبير ومناطق مكشوفة تُظلل الحشود، كما يحتوي على غرفة للبث الإذاعي لتوصيل خطبة العرفة وصلوات الظهر والعصر إلى العالم.

من الناحية التنظيمية، تشرف الدولة السعودية على تنقل الحجاج بين المشاعر بأحدث الوسائل؛ فالطرق السريعة والقطارات والمطارات تنقل ضيوف الرحمن إلى عرفات، وتُنسّق المواصلات الداخلية بالحافلات بين منى ومزدلفة وعرفات. وفي عرفات نفسها توجد علامات تحدد حدّ السعي، فثلاثة أعلام بيضاء ونقاط التفتيش تعين الحاج أين يجب أن يقف في هذا المكان الفسيح. وقد تسهلت خدمات الحجاج حديثًا بشبكات الاتصالات والإنترنت، والتكييف في الخيام الجماعية والمياه الصالحة للشرب.

تسود أجواء عرفات حالمة وتعجّ بالمشاعر العميقة: يقضي الحاج جل وقته في السجود والدعاء والتضرع، ويستقبل المواطنون غير الحجاج هذا اليوم بشعور مماثل من الخشوع. فالناس في بلاد المسلمين يشتركون في الذِكر والتكبير وقد يخصصون ساعات للصلاة والتهجد في ليالي العشرة، كلٌّ وفق عاداته المحليّة، ويغلب على العائلات والأصدقاء الحوار حول دور العبادة وأهمية التقوى، فيُعزّز يوم عرفة شعور التضامن والإيمان المشترك.

أحداث تاريخية بارزة

أهم حدث تاريخي وقع في يوم عرفة هو خُطبة الوداع التي ألقاها النبي ﷺ في حجة الوداع سنة 10هـ. فبينما كان صفوف المصلين ترتفع على جبل عرفة قال ﷺ كلمات نُسِخت في القرآن في قوله: **«اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا»**، معلنًا بذلك اكتمال رسالة الإسلام. وقد روى عُمر بن الخطاب أن النبي ﷺ بعرفة قال: «إن الله غفر لأهل عرفات وأهل المشعر» فيما إذاع إبراهيم عليه السلام الصلاة جمعاً وعصر جمعاً يوم عرفات.

بعد عصر النبوة، كان يوم عرفة ملاصقًا للكثير من الوقائع العسكرية والاجتماعية: ففي عصر الصحابة شهدت منطقة عرفات مؤازرة المسلمين لبعضهم في معاركهم القريبة (مثل حروب الردّة وحرب اليمامة)، وفي العصور اللاحقة شهدت أحيانًا تجمّعًا لحجاج من بلاد مُختلفة بعد انتهاء فتوح الفتوحات الإسلامية. ورغم ذلك ظلت غالبيتها تندرج تحت سياق الحج نفسه. وفي العصر الحديث، يظل أهم حدث في كل عام هو أداء ملايين المسلمين لمناسك الحج والوقوف بعرفة، وتلاوة خطبة الحجيج التي اعتاد العلماء إلقاءها منذ الفتح الإسلامي لمكة، مما يجعل كل يوم عرفة شاهدًا على وحدة الأمة الإسلامية وتاريخها العريق.